لماذا الكوارث ..
د/ مصطفى محمود
إن كل ما بالعالَم مِن كوارث وأزمات ومِحَن وحروب ومجاعات ينبع من أصل واحد هو .. أزمة الضمير الإنساني وما أصابه .
إن السماء لن تجود بالماء ولا الأرض بالحياة وأبناؤها يسفحون عليها الدم بغيًا وجورًا على بعضهم البعض، فخالق الأرض وما تثمر
من غلات هو الله وهو وحده الذي بيده مرفق المياه الذي ينساب من السماء، كما أن بيده تغوير المياه الجوفية التي تخرج من الأرض
.
وهو قد جعل الاجتهاد سببًا في الرزق، كما جعل الطاعة والتقوى والمحبة مؤهلات أكبر خطرًا ..
ولا شك أن الشرور والمِحن التي تغرق الأرض يواكبها على الناحية الأخرى موجات الكفر والشِرك والوثنية والتدهور الخُلُقي وتفكك
الأسرة وطغيان الظلم وغلبة الشهوات المادية على كل القيم والاعتبارات ..
حتى في البلاد التي عُرِفَت بتراثها العريق في الدين والتدين .. نجد أن هذا التدين قد انحسر الآن إلى مجرد شكليات دينية ، في حين
انحرف السلوك إلى مادية مسرفة وراح الكل يتسابق إلى الكسب المادي والثراء العاجل على حساب جميع القيم الدينية .
وإذا كان ما يجري في أثيوبيا بسبب القحط والجفاف من موت الملايين موتًا وعطشًا يذيب الفؤاد حسرةً وألمًا .. فإن ما جاء في تقرير
لجنة المعونة البرياطانية لأثيوبيا يستوقف النظر، فقد جاء في التقرير أن المعونة لا تصل إلى المستحقين وأنها تُمنَع عن القرى التي
بها ثُوّار، وأن هذه القرى تُترك ليفترسها الجوع والعطش بينما تذهب المعونة إلى الجيش وإلى القوات الحكومية .. ويعلق التقرير على
البذخ والملايين من الدولارات التي أنفقتها الحكومة في الاحتفال بأعياد الاشتراكية، وفي الولائم والمسيرات الشبابية، والمهرجانات
في أديس أبابا بينما الفلاحون يموتون هم وبهائمهم جوعًا وعطشًا في القرى الأثيوبية .. وهو كلام يُقال في مواطن كثيرة ولدول كثيرة
من العالم وليس لأثيوبيا وحدها .
إن الخير .. حتى الخير البحت الذي ينبع من الضمير لا يوزع بضمير ويظل المبدأ هو نفس المبدأ ..
أنا آكل وخِصمي في الرأي يموت .. ماذا يُتوَقَع في عالَم كهذا ! ..
إن ما يجري داخل الأسرة وداخل الوطن من مظالم يظهر مكبَرًا على مساحة العالَم كله ثم يعود فيظهر مترجَمًا في أحداث وأزمات
وحروب ومِحَن وأوبئة ومجاعات .
بل إن ما يجري في ضمير الفرد من صراع ، وما تسكن رأسه من خواطر ، وما تتنازعه من رغبات هو المفتاح للمشكلة كلها .
وإذا كان البحر تلوث .. فقد تلوث بنا نحن وبما أفرزناه فيه ..
إن فضلات أفكارنا ورغباتنا هي التي صنعت كل هذا .
سمعت الرجل يلوم زوجته ويلقي على رأسها وعلى النساء أجمعين ما بالعالَم من بؤس .. فهي لا تَرضى ولا تشبع ولا تكف عن
الطلب، وهي كرباج لا يكف ينزل على ظهره ليجري ويهرول ويسعى ويكسب ويجمع، ليضع ما جمع في أيديها لتجري هي بدورها
إلى السوق لتنفق ما جمع، وتطلب المزيد .. ولا هامش لديها للإكتفاء.
وإذا صدق الرجل في شكواه فهو ملوم هو الآخر مثل زوجته .. فيبدو أنه لا هامش لديه للخضوع والرضوخ والضعف والاستكانة ..
فهو ملوم لضعفه بمثل ما هي ملومة لطغيانها، ولن تكون الذرية التي ينجبها الإثنان إلا استمرارًا لهذه العيوب وتضخيمًا لها مع مرور الوقت ..
وهكذا تتفاقم العيوب بمثل ما تتضاعف الأرقام في متوالية حسابية .. وتتدهور الأجيال ويتدهور النتاج الإنساني فنًا وفِكرًا وسياسة ..
ومع الوقت لن يكون التقدم العلمي في مثل هذه المجتمعات حسنة بل عيبًا .. لأنه سيضع في يد هؤلاء الضِعاف وسيلة دمار كليّة
يقضون بها على كل شيء وينسفون بها كل ما كسبه أجدادهم من تراث الحضارة وما بنوه وما شيدوه بعرقهم ودمائهم.
إن العِلم سوف يسلِح الحماقة .. وطاقة الذرة سوف تكون ذراعًا للطغيان وأداة لحب السيطرة .. والصاروخ سوف يكون أداة للقهر والاستبداد ..
وسوف تتجسد المأساة في هذا المسخ الشائه الذي له ذراعا شمشون والذي له ضمير وغد محتال .
ولكنّا جميعًا وضعنا بذرة هذا المسخ ، ونحن جميعًا أنجبناه وربيناه .. ولا يملك أحدنا أن يبرئ نفسه.
وقديمًا قال عمر بن الخطاب " لو عثرت دابة في العراق لرأيت نفسي مسئولًا عما حدث لها " وهي قولة حق ..
فما يجري في أي مجتمع هو محصلة أفعال أفراده .. وكل منهم مسئول بحسب مكانه تصاعديًا من القاعدة إلى القمة.
إن ما يحدث لنا هو نحن، وكل واحد لا يقابل في الطريق إلا نفسه .. المجرم تتسابق إليه مناسبات الإجرام، والفاضل الخيّر تتسابق إليه
مناسبات الخير والعطاء.
وبمثل ما تجود أيدينا تجود أرضنا وتجود سماؤنا لأن الذي خلق الكون خلق له القوانين الحافظة التي يزدهر بها طالما كان ناميًا،
والقوانين الهادمة له إذا دب فيه الفساد ونخر فيه السوس.
وبنْيَة المجتمع مثل بنية الجسم .. هي في نماء وازدهار طالما غلبت فيها عوامل الانسجام والنظام والصحة، فإذا غلب الإضطراب
والفوضى والمرض تداعت إلى تراب.
فلا تلوموا القدَر ولا تحتجوا على السماء ولا تقولوا ظلمَنا ربنا بهذه الكوارث ..
بل قولوا ربنا ظلمنا أنفسنا ..
ولينظر كل منا ماذا يفعل في دولة نفسه وإلى أي جانب من رغباته ينحاز ..
إلى لذّاته العاجلة وإلى منفعته الذاتية ؟! .. أم إلى نجدة المحروم ونصرة الضعيف ! .
إلى الأصنام المادية يتوجه ؟! .. أم إلى القيم ؟! .. أم إلى رب القيم !.
ثم لينظر ماذا يفعل لا ماذا يقول .. وماذا يُخفي لا ماذا يُعلن ..
وحينئذٍ سيعرف الجواب على سؤاله ..
لماذا كل هذه الكوارث ! ..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق